الانتحار ازمه ترجمه ام مفاهيم ملتبسه
عندما يشتد الصراع في أرض فلسطين "المستلبة" يصحو الضمير العربي والإسلامي قليلاً ، وربما يُسمح بمسيرات احتجاجية " تـنفيسية " لتفرغ شيئًا من ذلك المخزون النفسي المتراكم ، والمتراكب على نفوس الناس ؛ لأنهم يعرفون جيدًا معنى القهر سواء من العدو التاريخي ( اليهود ) ، أم المستعمر ، أو السلطان المتجبر ، هذا بالطبع فضلاً عن المكانة الرمزية والواجب الديني نحو القدس أولى القبلتين ، وأرض المعراج .
وفي سياق صراعنا مع إسرائيل انكشفت كثير من الإشكاليات التي يعاني منها العرب والمسلمون على كثير من الأصعدة ، وخاصة السياسية والإعلامية .
فيما يخص الإشكاليات الإعلامية أسفر الصراع عن حقيقة المكانة التي يحتلها إعلامنا عالميًّا ، ثم عن مدى تبعية هذا الإعلام لوكالات الإعلام الغربية والعالمية التي تصب في نهاية المطاف في مصالح إسرائيل ، سواء كانت تابعة ليهود أم لغيرهم .
قد يكون مفهومًا ومنطقيًّا في مجتمع دولي لا يحترم حقوق الإنسان إلا حينما يريد ، ولا يحقق العدل إلا حينما يريد ، قد يكون مفهومًا إصرار وكالات الأنباء الدولية (التي يترجم عنها إعلامنا) على سيل من المصطلحات مثل "الانفصاليين الشيشان " ، و " الإرهاب " و " العنصرية " و " معاداة الساميَّة " ... ،
وعلى رأس تلك المصطلحات ، وخاصة حينما يكون الحديث عن فلسطين ، ثمة العمليات الانتحارية ، و " أعمال العنف " .
إن ذلك الإصرار في مجتمع حاله ما وصفت مفهوم ؛ لأنه يخدم مصالح وسياسات أصحابه والحكومات المرتبطة بوكالات الإعلام ، وليس مقبولاً في مجتمع دولي تسوده السياسات " المصلحية " ألا يتحيز لسياساته تلك ، وعندما تشتبه المصالح وتتشابك يصبح مفهوم " الحياد " وسيلة إجرائية تصون المصالح أيضًا من مثل " أعمال العنف " ، وظاهر هذا المصطلح ، وإن كان يشمل الطرفين ، فإنه – وفي السياق الغربي الذي لا يفتأ إعلامهُ يبرر سياسات إسرائيل الظالمة – لا يعني إلا طرفًا واحدًا هو – بداهة – الفلسطينيون .
لا يفتأ إعلامنا يستعمل مصطلح " العمليات الانتحارية " نقلاً عن الوكالات العالمية ، وكان هذا محط نقد واستغراب ، إلى أن حدث اللغط حول حكم تلك العمليات ( حلال هي أم حرام ؟ ) فانقسم الكتّاب في الصحف إلى فريق يدافع عن حرمتها بحجة أن الإسلام سبق معاهدة جنيف بقرون في تقرير حرمة إزهاق روح المدنيين ولو كانوا معتدين (!!) .
وفريق آخر يدافع عن مشروعيتها بحجة " النكاية في العدو " .
هذا اللغط المأساوي الذي جاء في وقت حرج بالنسبة لقضية الأمة المستعصية ، كان له آثار سلبية ،
أولها أنه أعطى بعض المشروعية لاستخدام مصطلح " الانتحارية " .
وثانيها : أنه انتقل بالقضية من حيز " الجهاد " المشروع بل الواجب " بأي شكل من الأشكال " إلى حيز " الجريمة " ، ليس القانونية فحسب ، بل الدينية ؛ فالمنتحر خالد مخلد في النار . وفي حين كان المرء لا يتردد في الإقدام ، أو التهليل والفرح بحصول عملية " فدائية " صار من الممكن أن يتردد في مشروعية ذلك الفرح نفسه تبعًا لتردده في مشروعية تلك العملية . ونحمد الله أن ذلك اللغط لم يَسْرِ إلى عقول الحركات الجهادية في فلسطين .
هذا اللَّغَط سببه الخلط بين الاختصاصات ، فمن المعلوم أن مثل هذه القضايا تنتمي إلى حقل " السياسة الشرعية " مما يستلزم أن يكون أهل الذكر فيها خبراء في السياسة والمجال العسكري في عصرنا ، شرط أن تكون اجتهاداتهم منسجمة مع المقاصد الكلية للشريعة بحيث لا تصادم أصلاً من الأصول ، وهو ما ينتمي إلى مجال عمل الفقيه .
ثمة شيء غير مفهوم ومحزن ، وهو :
كيف استطاعت إسرائيل أن تلبس الحق بالباطل ؟
وكيف استطاعت أن تمحو المصطلحات التي تريد من المعجم الإعلامي العالمي ، وتفرض المصطلحات التي تريد ؟
فكيف تم تغييب مصطلح " العمليات الاستشهادية " لصالح " العمليات الانتحارية " ، وتغييب " المقاومة " لصالح " العنف " و "الإرهاب" ؟
وكيف تم ترسيخ وتكريس فكرة " المقاومة " في الجانب الإسرائيلي بعد أن كان يوصف بها الجانب الفلسطيني في الإعلام العالمي ؟
بل كيف تم ابتكار مصطلحات إعلامية تؤكد فكرة " المقاومة " والمشروعية لكل فعل إسرائيلي ضد الفلسطينيين مرة باسم
" ضربة وقائية " وأخرى باسم " ضربة احترازية " وثالثة باسم " ضربة جزائية" .
وإذا كان يتم قتل الفلسطينيين باسم الوقاية والاحتراز والجزاء ( وكلها مشروعة وفق الإعلام الغربي ) فما الذي تَبَقَّى من دائرة المحظور ؟
إنه - وفقط - كل فعل فلسطيني ، ما عدا - طبعًا - الاستسلام (عفوًا السلام ) الكامل غير المشروط ، وإياك أن تسميه استسلامًا ؛ لأنك تكون حينئذ إرهابيًا .
إننا لم نعد نسمع أو نقرأ في المعجم الإعلامي مفردات كثيرة من مثل " الأراضي المحتلة " و"اللاجئين" و"المشردين" ، بل أحيانًا لا نسمع "فلسطين" لصالح تعبير :الأراضي الفلسطينية
فهل نتعلم من إسرائيل كيف نبني سياسة إعلامية يكون لها السيادة ، مع الفارق الكبير بين من يدافع عن الحق ، وبين من يزين الباطل ؟
وهل نتجاوز مرحلة النقل والترجمة الحرفية لنبتكر مصطلحاتنا ، ونُسَوِّقها عالميًا ؟
ولماذا لم نفلح حتى الآن في إنشاء وكالة إعلامية عالمية باسم الدول العربية ؟
قد يكون اهتمام جامعة الدول العربية مؤخرًا بهذا الجانب ، واعتماد السيدة حنان عشراوي ممثلة إعلامية باسم جامعة الدول العربية خطوة مهمة ، ولكنها ليست كافية .
الأمر الأخير الذي نود الإشارة إليه هو أننا نُعجب كثيرًا وننتشي بالعمليات الاستشهادية الجهادية ، وبشجاعة أولئك الشبان الذين يقومون بها ، ولكن أين شجاعتنا نحن ؟
وهل نكتفي بهذا الفرح من بعيد ؟
أضعف الإيمان أن نستحضر نية الجهاد ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : [ من مات ولم يغزُ ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق ] ( رواه مسلم) .