إبحار ماورائي
بقلم
حسين أحمد سليم
آل الحاج يونس
HASALEEM
أصابعي النحيلة منذ ولادتي, لا تزيد عن عظام رفيعة, لا تصلح إلا "ميل" مكحلة عربية, لعروس شرقية مليكة جمال حجازي صحراوي, ترسلها بأناملها الناعمة, بعد أن تمسدها بالدفء في قلب المكحلة, تحركها رحويا حتى تصطبغ بغبارية الكحل الحجري, المسحوق في جرن النحاس الأحمر بمدقة من النحاس الأصفر, وتكحل بالأثير اللطيف عيناها النجلاوان, المشعتان سهاما تفتك بالقلوب... عظام أصابعي تكسوها طبقة جلدية سمراء عربية رقيقة جدا, أرق من ورقة السيكارة, التي ينفث دخانها, من حكم على نفسه بالموت البطيء, يمارس الفعل بهدأة العاقل, حافرا قبره بيده وهو يشعر بنشوة الفعل... تبرز تحت جلدة أصابعي عروقي الرفيعة القليلة المائلة للون الأزرق, يخيل إلي أن عروقي لا دم فيها, وإن وجد فآثار دم وبقايا, وتحدثني نفسي بأن دمي أزرق اللون, حالة مخالفة جدا للطبيعة, ربما فعل الرفض يكمن حتى في دمي, إضافة لثورة الفكر في رأسي المنحني فقط لله... أصابعي هذه أراها ببصيرتي عوضا عن ضعف بصري, قد تغير لونها الطافح الوردي, منذ زمن انتهاك حرمة فلسطين, وأتحسسها نيابة عن نظري , تضمر شيئا فشيئا, كما يضمر العنفوان في نفوس البعض, مما حملهم التاريخ زورا وبهتانا, ونصبهم دمى في جغرافية الأمر الواقع, المزدان تنافخا وكبرياءا فارغا في عصر العولمة, تتلاعب بها حركة العهر في ما يسمى دولا عظمى, وأستشعرها تخاطرا كهرومغناطيسيا, عبر سيالات الإشعاع للوعي الباطني, تزداد حركة إرتجافها يوما بعد يوم, كالرعب الحائق بزمر الجيش الذي لا يقهر, وقهر بإذن الله تعالى, أصابعي سيدتي, كأنها موصولة بعلبة مولدات محطة كهربائية عالية القدرة, ناقلة من الأمس البعيد إلى اليوم الحاضر ذبذبات الحب للغد بقوى كهربائية عالية التوتر, تكفي لإنارة كل أنحاء الوطن العربي, الممتد من محيط المحيط إلى الخليج الحر, ويمكن تقديم بعض القوى لإنارة حتى المغاور في بلدان شعوب العالم الثالث, صدقة جارية يعتد بها ويتقبلها الرحمن القبول الحسن, ويبقى الفائض قوى تفيض وتتعاظم, لتمويل محطات مفاعلات نووية في كل قطر عربي, أين منها مفاعلات الحقد والكراهية في بلاد الشيطان الأكبر, وعشائر الأبالسة المنتشرة في قارات الأرض, فأنا لاأصدق لعبة تقنين الكهرباء المفتعلة في بلادي, تماشيا مع لعبة الإستحقاقات المسوفة قهرا في أروقة الأمم, بمباركة من زمر ما يسمى بمجلس الأمن...
أصابعي هذه التي يخيل لي, يجف فيها الدم في غفلة من العمر, في ربوع وطني الواسع الأرجاء, وتتناهى لعدسة عيني الزجاجية الصنع, البديلة لعدسة محجر رؤيتي الأساس التي إكتظت بحليب "الساد", من جراء ما حفظت من مشاهدات عجيبة غريبة, إلتقطتها عدستي في مشارق الأرض ومغاربه, علاوة على ما تخفي الرمال الحمراء والصفراء, عند شواطيء البحار والأنهار, وفي مفازات الصحاري... أصابعي التي تحمل "الشيفرة" المعقدة لكينونتي, والتي لم ولن ترقى حواسيب العالم لفك رموزها التكوينية, حتى ولو إجتمعت العقول العصرية, وكان بعضهم لبعض ظهيرا, غدت أصابعي هذه تميل بجلدتها إلى الإصفرار الرملي, تطابقا لرمالنا العربية التي تحكي سير ألف ليلة وليلة, وترتجف أكثر وهي تحاول الإمساك باليراع, كلما نادى علي الإلهام في متاهات البعد للوحي, يراعي الذي رافقني منذ بداياتي, صديقا مخلصا ورفيقا أمينا وحبيبا وفيا ومترجما دقيقا ومعبرا جميلا, ما خانني يوما منذ نعومة أظافري وحتى حاضري, يراعي العربي القومية, الضادي الهوية, حامل أمانة القضية, صاحب الأفكار الثورية, الرافض لكل أشكال العبودية, الثائر على كل المواقف الخنوعية, كاتم أسراري الأقرب إلي من حبل الوريد, أكثر من غيره في غمار هذه الحياة, تزداد حركة إهتزازه وهو بين إبهامي وسبابتي, رفضا ثوريا ويمسك هو بأصابعي, تحديا في عصر القهر والعهر والكفر, حانيا على أناملي, حافظا عهده ووعده, الذي قطع يوما, يرد الجميل بعنفوانه الأصيل, في الوقت الذي مارس الآخرون لعبة الخيانة العظمى, وقطع الساسة رحمهم كفرا بنعمة الله ...
أصابعي تفتر حرارتها بافترار دمائي, حتى في فصل الشتاء المثقل بالصقيع, دمائي المرتحلة دائما مسافرة في شراييني, لا تهدأ ولا تستقر لحظة من زمن, كما ترحالي ورحيلي في وطني الكبير, وتسولي عند قارعة الأتوسترادات السريعة, أبحث عن ذرة شرف يتغنى بها, من باع نفسه وروحه وشرفه للشيطان, وراح يتمثل نمرود ابراهيم وفرعون موسى وووساوس أبي لهب لقيام دولة ساقطة قبل قيامها... هكذا قدرها مذ وجدت في جسدي الفاني, دمائي القانية اللون, القادمة إلى شعيرات رؤوس أصابعي, عبر عروقي الدقيقة جدا, الممتدة تقديرا تكوينيا إلى شغاف قلبي النابض بالحب العظيم, الذي غدا تراثيا في هذا العصر, وأسطوريا يروى في سهرات العجائز للذكرى, للرحمة على شهداء الحب التاريخيين... قلبي رغم صغر حجمه, هو قبطان سفينة جسدي النحيل أيضا, وهو الحاكم المفرد, الآمر الناهي, الدكتاتور الذي مسك كل الأمور بقبضته, وصادرها بدهائه السياسي بلا حروب, ولم يمارس القتل ولم يمارس سفك الدماء, ولم يدس السم في الأكل والشرب لمن يناوؤوه في الرأي, وفرض سلطته بقوة الحب قبل الإكراه, على كل أعضاء مجلس شيخوخه, وجميع أعضاء مجلس وزرائه, ومجموعة أعضاء مجلسه النيابي, وأخضع الجميع لنظامه, ومنع الإعتراض أو الإحتجاج أو التمييز القضائي, فهو الحاكم وهو السلطة وهو القاضي... ورغم دكتاتوريته وسلطته التي لا تقهر, إلا أنه يتميز بعدالة واسعة, ويعامل الجميع بالقسطاس, ولا يظلم مثقال ذرة إلا من شاء وظلم نفسه... وهو المحب للجميع دون تمييز ديني أو طائفي أو مذهبي, وهو الذي يصل الجميع وإن قطعوه لا يقطع رحمه, وهو القائم أبدا على حفظ حياة الجميع, يسهر دون أن يقاربه الكرى والبقية نيام, حارس مملكته لا ترفل له عين, والله ما شعرته ينبض يوما بغير العشق...
عفوا سيدتي التي أحبها قداسة في الله تعالى, والتي منحتني العشق الشفيف طهارة, وعلمتني كيف تكون الحياة حياة, وكيف يعيش الحب في النفوس, وكيف يكون الإنسان أخ الإنسان, وكيف تكون الأخلاق الكريمة العظيمة منهاجا ومسارا وتطبيقا فاعلا في العلاقات الإنسانية, وكيف يكون النظام العادل الشامل قانون استمرار, وكيف يجب أن يمارس التقوى في العباد من نصب نفسه للناس إماما, وما هي الحقوق والواجبات لكل نسمة حياة, وكيف تقام الجمهورية الفاضلة في هذا العصر, وكيف أن الأديان من ديان واحد أحد فرد صمد, والطوائف والمذاهب ما هي إلا ساحات سباق لمرضاة الله تعالى, وليست ساحات عراك ووغى للتكفير والتشهير والقتل والإبادة, فالقاتل والمقتول في النار وبئس القرار, وكيف أن الجسد الواحد منظومة واحدة, إذا اشتكى عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والإستنفار, وكيف؟!... وكيف؟!... وكيف؟!...
عفوا قلمي الوفي المخلص, عفوا يراعي الأمين على حروفي وكلماتي وخواطري ونثائري وقصائدي, أستميحك عذرا يا صديقي ورفيق دربي, يا من تعلقت بك كما تعلقت بي, وأخلصت لك كما أخلصت لي, وأحببتك كما احببتني... قلبي يقرع في صدري على شغافه, ينشد سمفونية العز والخلود. يغني رؤاه, يكرز بما حملت إليه الروح من عالم البرزخ, يبوح ويجاهر, ويضخ دماءه متجددة لا ينتظر تكريما من أحد أو نيل وسام من أحد أو تعليق نيشان من أحد... وإن جف قلمي منه المداد الأسود والأزرق والأخضر والأحمر ومشتقات منظومة الألوان, تبقى عظام أناملي الدقيقة, أستخدمها "ميل" المكحلة, كما العروس المجلوة, وأسطر بها آخر كلماتي...
لا, لم ولن تجف العقول من التفكر والتفكير, لا, لم ولن تنضب النفوس من العنفوان والإباء, لا, لم ولن تبتر الدنيا من قائد عبقر على رأس كل قرن, لا, لم ولن تهن بلادي رغم كثرة الأعادي, لا, لم ولن تركع أمة آمنت بالله ورسله وأنبيائه ولم ولن تفرق بين واحد منهم وله هم مسلمون في صحف ابراهيم, وتوراة موسى, وزبر داوود, وإنجيل عيسى, وقرآن محمد, أمة آمنت بكتب منزلة من لدن عزيز حكيم, لا, لم ولن تكبو أمة الله ربها والإسلام دينها والقرآن كتابها ومحمد نبيها وأولي الأمر قادتها, وإن كبت لزمن ما, فما عند الله أبقى والأرض يرثها العباد الصالحون...